امحمد بوستة.. الراحل الذي لم يرحل صدقه، وفاؤه، وجرأته السياسية
المرحوم امحمد بوستة
فقد المغرب شخصية فكرية حقوقية وسياسية تميزت بالوفاء والصدق وتقبل الإختلاف، بالإضافة إلى القدرة الفائقة على الإنصات المركز على الوجدان والفكر والكفاءة التفاوضية المتعددة المقاربات والقدرة على الإقناع والتميز بالجرأة السياسية التي لا تخاف في نصرة الحق لومة لائم.
إن القائد السياسي ومهندس العمل الوحدوي الديمقراطي، والنقيب والمحامي الأستاذ امحمد بوستة المكافح ضد الظالم والمناصر للحقوق والحرياتقد يصعب على من ترعرع و نشأ منذ طفولته في أحضان حزب الاستقلال وعايش سيدي امحمد بوستة المربي والمكون على نهج مدرسة سيدي علال الفاسي التي تكون الأفراد والجماعات على قواعد التفكير بالواجب والوعي المتجدد بمصالح الوطن والمجتمع على قواعد العلم والمصداقية في العمل. وبعقيدة عنوانها أن الاستقلال الوطني لا يكتمل إلا بتحرير المواطن من كافة صنوف العبودية السياسية والاقتصادية والإجتماعية عبر الديمقراطية كآلية لكفالة تكوين مؤسسات ائتمنها المجتمع على مصالحه، ويمتعها بثقته ويخولها كل الصلاحيات التي تجعلها قادرة على تحمل المسؤوليات في كل الظروف التي تواجهها البلاد.
إنها المدرسة التي علمتنا على أن ما نتلقاه من تكوين علمي وتربية سياسية وتثقيف حزبي هو زاد يجب أن يكون متجددا لتقوية الاقتدارات المتعددة لدى المناضل لتيسر له إدراك المقاصد وتوقع الأهداف، والحرص على الاعتقاد بأن كل تموقع له علميا كان أم إداريا أو سياسيا كان أو اجتماعيا أو ثقافيا أو اقتصاديا، سواء تم عبر الانتخاب أو بناءا على التعيين فهو مجرد مركز متقدم من مراكز النضال من أجل تحرير المواطنين لتأمين استقلال الوطن وليس امتيازا على حساب القيم النبيلة التي يناضل الحزب من أجلها ويربي مناضلين على التضحية كسبيل لتحقيقها.
كما أن الأستاذ سيدي امحمد بوستة رحمه الله يلح على الشباب الانخراط في العمل السياسي في وقت كان يعتبر كل منتسب سياسيا مشتبه فيه من قبل المتسلطين على مؤسسات المجتمع في هذا البلد. كما كان حريصا رحمه الله على التواصل مع كافة المواطنين بكل شرائحهم بقناعة مفادها أن حزب الاستقلال الذي صنعه المجتمع المغربي بدعائه وأرواحه لكي يكون قائدا ميدانيا لكل معارك التحرير ضد المستعمر وفاعلا قويا في تشييد مجتمع الحقوق والحريات وفق نظام دستوري يتم وضعه عبر تعاقد إنساني بين كافة أفراد المجتمع ومكوناته تتجدد بمقتضاه هوية المجتمع ومقوماته القيمية واللغوية وتطلعاته العلمية و السوسيوثقافية والاقتصادية والسياسية، ويحدد صنف نظامه السياسي وبين شكل المؤسسات التي يجب أن تكون قيمة على انجاز تطلعات المجتمع على درب التقدم الحضاري.
وإذا كان ليس للسياسة في حقيقة الأمر من أسس سوى الطبيعة الإنسانية فإن الأستاذ سيدي امحمد بوستة كان كثيرا ما يركز على الأبعاد النفسية في إدراكه وتشخيصه وتقييماته، بل وفي تصنيعه للفعل السياسي. فهو الدارس للعلوم الإنسانية بجامعة السوربون كان رحمه الله يعتقد بأن السياسية علما وعملا كثيرا ما ينبني على افتراضات تتصل بطبيعة الفرد وديناميكية الجماعة، وهذا يعني أنه كان يركز في تواصله الإجتماعي والسياسي على مقومات الشخصية الإنسانية. وعليه، كلما كانت تتاح لنا فرصة مجالسته وإلا ونلامس قدراته الفائقة على تجاوز التخوم التي لا حدود لها والارتقاء بالجلسة فكريا وحميميا إلى مستويات عالية من التفكير سواءا كان الاجتماع تنظيميا أو ثقافيا أو بمناسبة اجتماعية.
وإذا كان السياسيون الطيبون يتقنون البلاغة والتأثير على العواطف، فإن الأستاذ سيدي امحمد بوستة رحمه الله كان من السياسيات الفريدين الذين عندما تنصت إليهم تردك قدرتهم على تحويل المعلومة إلى معرفة وتحويل المعرفة إلى تجربة لأنهم لا ينشدون تشكيل الناس أو تنميطهم أو تجيشهم، ولكنهم يستهدفون من خطاباتهم تكوين الناس والارتقاء بشخصياتهم، وهذا الذي تعلمه من حالفهم الحظ في أن يتربوا وينشؤوا سياسيا في مدرسة حزب الاستقلال بعناية أخلاقية من قبل سيدي علال الفاسي رحمه الله وسيدي عبد الخالق الطريس رحمه الله و سيدي امحمد بوستة رحمه الله. فهؤلاء كانوا يسهرون على التربية الوطنية والتثقيف الحقوقي والتنشئة السياسية على قواعد المنهج التدخلي الذي يؤمن التكوين والتأهيل السياسي للمناضل من داخل العمل النضالي الميداني و في إطار شراكة أخلاقية ما بين القائد ومستهدفيه.
وهذه قيمة حضارية كان يتميز بها العمل السياسي الحزب المستقل الذي كان يعتبر تكوين الناس وتأهيلهم لخوض معارك البناء المجتمعي المتحضر أساس كل عمل سياسي تربية، وليس مجرد أصوات انتخابية يمكن استمالتها بأي مؤثر من المؤثرات التي تسود العديد من بلاد الاستبداد المتخفية وراء الديمقراطية السطحية.
فقد كان سيدي امحمد بوستة رحمه الله في العديد من اللقاءات التنظيمية للحزب ينطلق من التركيز على إدراك إذ هذان مخاطبيه وحقيقة اتجاهاتهم النفسية وتمثلاتهم عبر انصات سيكولوجي متميز، ثم يعمل على الإجابة بكيفيات غير تقليدية وغير منتظرة، بل ومختلفة عن المعتاد. وكان رحمه الله يحذر من قنوات الدعاية التدجينية أو ما كان ينعته رحمة الله عليه بالإعلام الذي يقترح في متوسط عطاءات برامجية أكثر من سنتين شخصية في الساعة منهم محللون سياسيون تحت الطلب ونهايات للتسلية الوهمية مرتدية جلابيب ليست لها مثل جلباب الرياضة وجلباب الثقافة وجلباب الفن وجلباب التربية وجلباب الدين.
وهي قنوات لها نتائج خطيرة على مستوى اللاشعور قد تصل إلى فقدان الأسر والمدارس والجامعات والمساجد ودور العبادة والأحزاب والنقابات والجمعيات المدنية لأهميتها بالنسبة للمرء، وخاصة الأجيال الصاعدة التي أًبحت تعاني من سلبيات الإفراط في الإثارة التي كانت تمارسها القنوات الدعائية التي كانت محتكرة من لدن القلة هذه الأخيرة التي استولت أيضا على وسائل ما يسمى بالتواصل الاجتماعي الحريص على استثبات الفكر السريع الذي من نتائجه الإفراط في الحركة والاندفاع في الكلام وغياب التركيز وارتفاع مستوى القلق، فهو كان يجتهد من أجل تحصين المنظومة التربوية للحزب بكل مكوناتها ضد الأفكار الجاهزة وضد التسرع في التفكير وكان يبحث عن الحرية في التفكير والإبداع وعدم السقوط في براثين القلق الذي يجب أن لا تكون له مكانة في شخصية المناضل السياسي قاعديا كان أم قياديا، لأن قلق المناضل كثيرا ما يرمي به في أحضان العياء أو قد يصل به إلى التطرف والعنف أو يسقطه في أحضان الاستبداد الذي يوظفه ثم يرمي به في هوامش التاريخ.
وعليه، لم يكن سيدي امحمد بوستة امينا عاما للحزب وفق الضوابط القانونية المنظمة للحزب فقط، بل كان قائدا ومربيا وأخا ومناضلا ورجل إدارة ودبلوماسيا وإعلاميا وفيلسوفا لكونه يستطيع احتلال قلوب كل من يلتقي بهم في الداخل وفي الخارج بسلاسة متميزة بغض النظر عن الاختلاف الإيديولوجي أو السياسي أو الديني. ذلك لكونه كان يمتلك أدوات فهم مدرجات العقول، ومقومات النفوس من خلال ثقافته المتجددة التي يتقيها من المعرفة العلمية المتخصصة في دراسة الظاهرة الانسانية، ففي كل محاضراته ومرافعاته القانونية والسياسية لا تجد مجرد الفصاحة أو استعمال المصطلحات الثقيلة بل تنعم بالمعرفة المتجددة والمثيرة التي تحول الفضاء إلى واجهة غناء غنية بالفكر والعطاء المتميز الخالي من الجمود والتحجر والمكلل والتوتر.
ذلك لأن الثقافة السياسية للرجل لم تكن منغلقة بل تتسم بالتنوع في المناهج وفي المضامين. ثقافة تستمد أنفاسها وشرعيتها من العلوم المعتنية بالظاهرة الإنسانية بشكل متجدد كان يوظفها في تميز الحزب كعضو فعال داخل المناخ السياسي المغربي له عمق تاريخي وحضور مجتمعي ورصيد متميز على درب الكفاح المجتمعي من أجل التحرير والاستقلال والديمقراطية. حزب مسؤول عن الإسهام المتواصل في تأمين الحاجيات السياسية لكل إنسان في المغرب تكفل التواصل الإنساني الفعال وتصون التماسك المجتمعي، وتحدد العمق الإستراتيجي للمنافسات الحزبية في ارتقاء مستوى التفكير بالواجب نحو صيانة الوطن وتقدم المواطن، وفق ما ينسجم والمصلحة الفضلى للإنسانية وتمكين الناس من مهارات الإسهام في تصنيع القرارات وإعمالها وتقييمها في مواجهة الشؤون العامة الوطنية والجهوية والمحلية والقطاعية.
وتمكينهم أيضا من قدرات الاختيار الحر والنزيه لمن يرغبون في أن يكون قيما مؤتمنا على التدبير اليومي لتلك الشؤون بشكل ديمقراطي وعلى أساس تداولي. بالإضافة إلى حرصه على تقوية وتثمين الرأسمال الفكري والسوسيوثقافي والمجتمعي للحزب الذي كان حزبا للمجتمع, ويجب أن يبقى كذلك حيث أن الاستقلالي لم يشعر بالغربة أينما حل وارتحل. ذلك لأن الجماعة الاستقلالية مؤسسة وفق روابط عقائدية متينة، ليس مجرد تجمع انتخابي تكون النصرة فيه حركا على فئة معينة بوازع عائلي أو مادي أو يدعم من جهات توظف قدراتها من أجل اختراق الحزب وسلب استقلاليته وإفراغه من محتوياته الفكرية والقيمية والسياسية وتماسكه الاجتماعي. بل كان المقياس ينبني لدى سيدي امحمد بوستة هو مستوى النضج السياسي الذي تتميز به الثقافة السياسية لدى المناضل داخل الحزب ومستوى قدراته على تصريف قيم ومبادئ الحزب محليا أو جهويا أو وطنيا أو داخل المجالس المنتخبة أو في البرلمان أو في الحكومة.
وقد كان سيدي امحمد بوستة قدرة في الأخلاق عامة وفي الأخلاق السياسية بالخصوص، كما تميز بقدرات عالية في الترافع الفكري والقضائي والسياسي وإقناع خصومه قبل مؤيديه وصلاحية توجيهاته واختياراته فقد أسهم فقيدنا رحمه الله برقي اللغة وبراعة التعبير والتأثر في وسائل الإعلام واحترام ذكاءات الآخرين واختياراتهم في الجدالات الداخلية داخل الحزب أو مع الفرقاء السياسيين أو مع الحلفاء أو مع الخصوم، حيث كان رحمه الله يتميز بقدرة عالية تمكنه من استخراج من نازلة معقدة فكريا وتقنيا عناصر البرهنة القادرة على الوصول إلى الحلول، بل وإتاحة الفرص وتوسيع الآفاق وتحقيق الاستحسان وتقليل فرص المقاومة والنقد المتوقع من قبل الرأي العام.
وإذا كان الفقيد على رأس القادة الحريصين في حزب الإستقلال على تأمين الرؤية والتثقيف على المشاركة في سيرورات اتخاذ القرار داخل الحزب، وفي كل الأمور التي تهم مصالح المغرب. وعليه كان مع كثير من رفاقه في اللجنة التنفيذية وفي المنظمات التابعة للحزب أو الموازنة له يسعى بشكل متواصل إلى استمرارية الديناميكية من تدعيم الدراسات واللقاءات التكوينية ولجلسات التشاورية والمفاوضات المتواصلة بصفة منتظمة.
لم يكن للأستاذ امحمد بوستة اعداء سوى الفساد والاستبداد الجاثمين على صدر المجتمع المغربي باعتقاد مفاده أن المغاربة لم يكافحوا من أجل الاستقلال إلا لأنه يؤمن الحرية التي لا حد لها إلا الإرادة الفردية والجماعية الحرية التي تعني مسؤولية الفرد في التفكير والعمل من أجل إسعاد الآخرين الحرية التي لا يستطيع أحد تقيدها. وهي التي ما تزال مفقودة في المغرب المعاصر الذي ما يزال منذ مرامن الانحلال وعدم الجدية التي تطال العديد من أجهزة الدولة ومحاولتها التخلص من كل الخطوات التي بذلت من أجلها جهود قوية نحو تحقيق إصلاحات سياسية وسوسيوثقافية وإنسانية قوية على مجابهة تحديات الحاضر والمستقبل الوطني في نظم التحولات الدولية.
وكان يعتبر رحمه الله بأن الديمقراطية ليست هدفا في ذاتها، ولم تكن بالنسبة له مجموعة من الشكليات المتمثلة في "الدستور" و"البرلمان" والمجالس الترابية والديمقراطية التي كان ينشدها وأسهم في تربية الأجيال الاستقلالية على مقوماتها هي التي تعيد الحكم للمجتمع وتمكنه فعليا وعمليا من الخروج من براثين الاستبعاد والتدجين والتخلف وهيمنة إذناب المستعمر وإحقاد القطاع وتحقيق الانتقال السوسيوثقافي والمعرفي والتقني الذي يعتبر أساس الانتقال الحضاري.
لقد رحل أستاذنا وقدوتنا في العمل السياسي القائم على قاعدة الأخلاق. أولا لأنه كان يلح دائما بأن لا سياسة بدون أخلاق وكان يعتبر العمل السياسي فرض عين على كل من يتمتع بشروط التكليف الشرعي.
رحل الرجل الذي جسد عمليا فكرة حزب الاستقلال ضمير للمجتمع المغربي. وإذا كان هذا الرحيل كان قبله رحيلا على المستوى القانوني – من كرسي الأمانة العامة للحزب – فإن امحمد بوستة لم يمت في قلوب محبيه وفي قلوب حتى من يخالفونه الرأي لأن عطاءاته الغزيرة للوطن وللمنطقة المغاربية وللقارة الإفريقية القوية على الحياة بفاعلية. فهل بإمكاننا تصريف عطاءات القلب الكبير والصدر الرحب الذي كان متسعا لكل الناس درب تمييز أو محسوبية أو مهما كان اختلافهم معه.
لقد ودعنا الحكيم في ظل ظروف حزبية ووطنية ودولية صعبة تحتاج إلى تبصره وحكمته للقيام بعمل سياسي يحررنا من الاستبداد بكل صنوفه.
رحم الله الأستاذ سيدي امحمد بوستة، وأسكنه فسيح جناته وألهم أسرته الصبر والسلوان، وأعاننا في هذه الحياة على الوفاء لرسالته المؤطرة بفكر الحرية والإخلاص لله وللوطن.
و إنا لله و إنا إليه راجعون.