الزاوية التيجانية في فاس.. ليلة المولد تجمع مريدين من إفريقيا والعالم
ومُحَيّاً كالشمس منكَ مضيءٌ**أسفَرَت عنه ليلةٌ غرّاء
ليلةُ المولد الذي كان للدين**سرورٌ بيومه وازدهاءُ
وتوالَت بُشرى الهواتِف أن قد**وُلِدَ المصطفى وحقّ الهناء”.
بقراءة مغربية جماعية، ردّدت جموع من المريدين بفاس، وعموم المسلمين الحاضرين بالزاوية التيجانية الأم، هذه الأبيات من “الهَمزية”، وأخرى من “البردة”، وغيرها من المحفوظات المحتفية بذكرى المولد النبوي.
بعد عشاء ليلة المولد، اجتمعت وجوه من جنسيات متعددة بمقر الزاوية التيجانية في زنقة “سيدي أحمد التيجاني” بالمدينة العتيقة فاس، وبعد قراءة جماعية لسور من القرآن، من بينها الفتح والإخلاص، تذكرت الجموع “جيرانا بذي سلَم” ومن “أبان مولده عن طيب عنصره” مع البوصيري، ناظم “البردة” التي تعد أبرز القصائد حفظا وترديدا بدول المسلمين منذ ثمانية قرون.
ومع توالي الساعات، توالى الانتقال بين مقاطع من البردة والهمزية، وسماعات أخرى، مع العودة إلى فاتحة الكتاب، والتسبيح جماعة، والتذكير بأن ذكرى المولد “عيد الفرح والسرور والتهاني”؛ لأنه “يوم ولادة الذات المحمدية”.
وبعد استحضار “دعوة الله للصلاة على رسوله”، تتناغم الألسن، على امتداد مقر الزاوية، بـ”صلاة الفاتح” التي لها مكانة محورية لدى التيجانيين، وأخذتها عنهم طرق صوفية عديدة: “اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم”.
ولا تقتصر ليلة المولد بهذه الزاوية على الذكر والمديح النبوي، بل تتخلل ذلك كلمات من مقدم التيجانيين تذكر بالصفات النبوية ورسالة الإسلام، وتعود إلى قصة المولد، كما تبرز ما في هذا الموعد من فرصة لرؤية الوجوه المحبة للرسول.
وتتوالى التصليات، ويتجدد التذكير بالبدايات، إلى أن تأتي من المتحدث دعوة “الوقوف”، فتقوم الزاوية كاملة، ويتسرب البخور إلى جنباتها، وتتردد التصليات، التي تجاب بتصلية جماعية موحدة تخاطب النبي حياةً: “اللهم صل عليك وعلى آلك وسلم”، لترفع الأكف بعد ذلك بـ”صلاة الفاتح”، وتسمع في ختامها زغاريد من حجرات مجاورة.
وقبل دعاء الختام الذي يتلازم ومنتصف الليل، يذكر اسم الشيخ التيجاني، في إطار الحديث عن “فضل رسول الله”، كما ذُكر هذا الفضل متصلا بـ”رسالة الله”، لتكون نهاية الاحتفال الرسمي بدعاء للحاضرين، وللسلطان، ودعوة لنصرة المسلمين ولم شملهم.
ولا يغيب الإطعام طيلة الليل عن الزاوية؛ فكما يحضر التمر والحليب والماء والحلويات المحلية طيلة الليلة، يكون الختام بالكسكس، الذي يترادف عند المغاربة مع “الصدقة”، و”الطعام”، أيضا.
إحياء ليلة المولد هذا، ليس احتفالا بذكرى فقط؛ بل إن مقصده، وفق تصريح مقدم الزاوية، الشريف التيجاني الزبير، لهسبريس، هو تخصيص “اليوم للتفكر والتذكر في سيرة هذا الرجل العظيم الذي مدحه الله، قبل أن يمدحه البشر”.
ولا تنتهي الليلة مع انتهاء الموعد الرسمي، بل بالكاد تبدأ أخرى تمتد إلى ما قبل الفجر بقليل؛ فتذكر الجنسيات الحاضرة من دول أخرى ذكرها الخاص جماعة، بألسنها أو بعربية بيّنةٍ لكنتُها.
طيلة ليلة تمتد من غروب الشمس إلى طلوعها، تحضر السبحاتُ مشتركا، والتنوع في الملامح والأعمار مع الوحدة في ما يذكره اللسان، إلا لماما.
ولا يقتصر الحاضرون على من قطعوا متاهات المدينة العتيقة ليصلوا الزاوية، بل تلوح من هواتف المريدين وجوه تنقل إليها أطوار الليلة مباشرة.
ولا تقتصر حياة هذه الزاوية عليها بل تمتد إلى محيطها الذي لا تغلِق متاجرُه أبوابها إلى ساعات الصباح الأولى، ولا تستثنى من ذلك متاجر الكتب والملابس والنعال والتذكارات الفخّاريّة.
وفي مشهد خاص، يغيب عن أماكن مغربية أخرى للعبادة تغلق بعد الصلوات، تحضر حياةٌ في الزاوية، ذكرا وإطعاما واستراحة؛ فبعد ساعات من القراءة الجماعية والسماع والأوراد، كلما ألمت بمريد سِنَةٌ أسلم نفسه لها، إلى أن يوقظه مناد قبيل الفجر يدعو الحاضرين للوضوء.
وبين من يقوم الليل هنا، ومن يقرأ القرآن ويذكر الله هناك، والجالسين في سكون ظاهري، ينادي مناد بأن “الليل قد ذهب بقدرة الله وأتى النهار”، وبأن “هذا يوم ناقص من الأعمار فاعتبروا يا أولي الأبصار”، ليؤذن المؤذن للصلاة.
وبعد فجرٍ، وصبحٍ، وفاتحة، وورد صباحي فدعاء، يتفرق الجمع مصافحا بعضَه، وخيوطُ الصباح الأولى تتسرب إلى مزار التيجانيين، إثر سماع “الحمد لله رب العالمين”.