حفريات فى تاريخ :القائد عيسى بن عمر العبدي .

حفريات فى تاريخ :القائد عيسى بن عمر العبدي .

 

تعد مرحلة تاريخ القرن 19م فى المغرب من المراحل التاريخية التي لم يعط لها حقها فى الكتابة التاريخية و لاسيما مرحلة القواد ، من طرف الباحتين و المؤرخين ، هذه المرحلة التي يدعوها الفقيد بول باسكون بالنظام القيدوي ، اعتمدت فى كتابة هذا الموضوع على الرواية الشفاهية التي التقطتها من أحفاد مدينة آسفي الذين رووا لي أخبارا عن القائد العبدي التي سمعوها عن اجدادهم ، فقمت بمقارنة بين الرواية الشفاهية وما اطلعت عليه من كتب التاريخ التي أنجزها باحثون من أبناء آسفى ، بالرغم من أن الرواية الشفاهية ينعتها المؤرخ الفرنسى J.Legoffبخيانة التاريخ ، فإنها تبقى أمام السؤال الديداكتيكى للتمحيص ، لها أهمية ، كأننا نقول :"أيهما تفضل حرق مكتبة أم قتل شيخ ".سأتناول هذا الموضوع من أربعة زوايا: علاقة القائد بالنساء و بالقبائل و بالمخزن وبأوربا.

من هو القائد عيسى بن عمر العبدى ؟ كان داهية فى السياسة من حيث المراوغة فى الحوار ، ولد بدوار ثمرة بقبيلة البحاترة ، مارست عائلته السلطة عن طريق عمه احمد الذى كان شيخا ،ثم ترقى إلى رتبة قائد على قبيلة البحاترة ، وبعد وفاته تولى القيادة ابن أخيه محمد بن عمر، وبعد تقدمه فى السن انتقلت القيادة إلى أخيه عيسى بن عمر الذى كان يتسم بالشجاعة و الذكاء و الدهاء و هو فى سن 21سنة ، فكان فى حياة أخيه ،يمثله فى المراسيم الولائية بمراكش ، هناك جانب آخر فى حياته ، كان حافظا للقرآن الذى أهله فى لعب دور القيادة ، و عند وفاة القائد محمد ، عين السلطان المولى الحسن الأول سنة 1879عيسى بن عمر قائدا على قبيلة البحاترة بظهير، الشيء الذى يؤكد نباهة القائد وأهمية عائلته لدى المخزن ، وهى ما يسميها المؤرخون بالعائلات المخزنية . أول ما قام به عند تعيينه قائدا ، أقدم على إحصاء تركة أخيه تحت إشراف المخزن ، فاشترى ممتلكاته نقدا من المخزن ، بمعنى أن القواد لم يكن لأبنائهم و عائلاتهم حق الإرث ، بل كان من يريد تولية هذا المنصب عليه شرائه من المخزن.

علاقة القائد بالنساء : لم أحض فى هذه العلاقة بالكثير من الأخبار ، ربما يعود ذلك إلى أن القائد كان متسترا فى علاقاته الحميمة و الحريمية ، حسب الرواة ، فان القائد كان متشبثا بالشرع الاسلامي فى علاقته العائلية داخل داره ، فالقائد كانت له 4 زيجات منهن زوجة أخيه محمد ، تزوجها القائد لتحصين عائلة أخيه و لكي يتكفل بأبنائه ، كان يحافظ على ما يدعى "المنكح" كانت داره بمثابة مزار مقدس بحيث لم يكن يقيم فيها حفلات "الشيخات" ولكن ما القول عن المغنية خربوشة .؟

علاقته بالقبائل : كانت علاقته مع القبائل المجاورة أو التابعة لنفوذه جد متوترة نظرا للضرائب الثقيلة التي كان يفرضها عليهم ، فمن اخطر الصراعات التي عاشها القائد ، تمثلت فى حربه مع قبيلة أولاد زيد الذين رفضوا التبعية للقائد ، فطالبوا مرارا من السلطان المولى عبد العزيز أن يولى عليهم "ملوك الزرهونى" قائدا باعتباره شيخا عليهم ، كانت هذه القبيلة ترفض أداء الضرائب للقائد عيسى بن عمر التي كانت ثقيلة عليهم ، الشيء الذى زاد من حقد و قلق القائد الذى حاول مرارا طلب الصلح المشروط مع هذه القبيلة ، فتدخل " الشرفاء الغنيميين " للصلح بينهم ، عندما قام القائد بكسوة ثبوت المولى الحسن بن رحو والي الغنيميين، لذلك قدم الدبائح و الهدايا " للشرفاء "للعب دور الوساطة ، رغم ذلك لم يفلح القائد بهدنة مع أولاد زيد، فبعد استشارة المخزن ، هاجم القائد قبيلة أولاد زيد بمساعدة قواد دكالة ، فعندما ضرب عليهم حصارا لجؤوا للاحتماء بالباشا" حمزة بنهيمة "الذى آزر أولاد زيد، رغم ذلك دخل معهم فى معركة خسر فيها أولاد زيد ، فاختار القائد أسلوب المناورة و الدهاء ، فجر أعيانهم إلى الحوار والصلح فى اجتماع مغلق بإحدى " الكارجات" فاخد الكلمة كبير قبيلة أولاد زيد شاكرا و مستعطفا القائد ، فاخرج القائد سيفه ، قطع به رأس المفاوض ، ثم أمر أعوانه بقتل الجميع ، الشيء الذى افزع حمزة بنهيمة ، فهرب بأعجوبة من هذه المجزرة آمرا بإغلاق أبواب المدينة فى وجه القائد عيسى و جنوده ، هذه المجزرة سميت بيوم الرفسة .

واصل القائد مطاردته لقبيلة أولاد زيد ما نعا أعيانها من الالتجاء إلى القبائل المجاورة للاحتماء بها أو تحريضها على القائد . بل طاردهم إلى أن اخلوا المدينة و أبعدهم عن القبائل المجاورة لآسفى ، ومن اجل محو قبيلة أولاد زيد طلب القائد سلفا ماليا من المخزن لشراء الأسلحة من ألمانيا من نوع "مارتنى"سلمت له بميناء الجديدة ، وبعد نهاية الحرب مع أولاد زيد فرض ضرائب ثقيلة على قبائل عبدة لاسترجاع السلف الذى أخذه من المخزن .

أما وضعية "ملوك الزرهونى" ، فقد سجن بمدينة تطوان إلى أن توفى فيها ، أما قبيلة أولاد زيد فقد جردها القائد من كل ممتلكاتها وخرب مساكنها ، كما أمر القائد جنده بقتل كل مولود ذكر من قبيلة أولاد زيد الشيء الذى اجبر النساء على التستر عن حملهن ، فبعض الحوامل كن يخرجن من القبيلة إلى قبائل أخرى فى سرية تامة لوضع حملهن خوفا من بطش القائد .

فعندما لاحظ السلطان الحسن الأول ،أن العلاقة بين القائد و أولاد زيد بقيت متوترة ، عين حمزة بنهيمة باشا على مدينة طنجة ،إبعادا له لإخماد الفتنة بآسفى و احوازها ، لذلك خلا الجو للقائد عيسى بن عمر فى المنطقة ، فأصبح سيدها بدون منازع .

علاقته بالمخزن : فمن نتائج انتصار القائد على أولاد زيد ، أصبحت له مكانة خاصة عند المخزن ، فأعطيت له صلاحيات القيادة على دكالة و احمر و الشياظمة ، فمجاله الحيوى قد اتسع أو كما يقال من ألواد إلى ألواد اى من نهر أم البيع إلى نهر تانسيفت ، وباتساع هذا المجال الحيوي ، تضاعفت كمية الضرائب عند القائد . ومن المهام التي اظيفت إليه ، كان يتدخل إلى جانب القواد الآخرين لردع القبائل الثائرة ، كما كان يشارك بجيشه إلى جانب حركات السلطان .

كان للقائد علاقة صداقة قوية مع الحاجب احمد بن موسى (باحماد) ،فبحكم الثقة المتبادلة بينهما ،كان الحاجب يوقع تعيينات على بياض يقدمها للقائد ،الذى كان عبرها يعين للمناصب من يشاء فى منطقته .فبحكم انه كان موضع ثقة ، كان يتكلف برعاية الخيول و البغال التابعة للمخزن وهى كثيرة ، كانت رهن إشارته مع تغريمه عن ضياعها .

كان القائد كريما فى هداياه مع المخزن ، كما كانت تدبح الثيران و الخرفان بمناسبة أو بدونها ، تقدم احتفالا بالزوار من أعيان المدن و القبائل أو العائلات المخزنية ، كما كانت داره مفتوحة للعامة .فعندما كانت تعرض عليه القضايا للفصل فيها ، لم تكن أحكامه فردية ، بل كان يحضر معه مستشارين لهم دراية بالشرع الاسلامى ، فعند إصداره الحكم ، كان يقول دائما ، هذان الشخصان هما المسؤولان عن هذا الحكم أمام الله .كما كان للقائد دراية تامة بكل القبائل و أسماء أعيانها ، فكان لاينام إلا بعد أن يتوصل بتقارير إخبارية يومية عن جميع الدواوير ، و من دهائه كذلك ، كان يفرض الضرائب الثقيلة على القبائل لإضعافها من اجل إبقائها تحت سلطته .

علاقته بأوربا : بحكم مغرب القرن 19 م ، كان تحت الضغوط الاستعمارية ، نجد أن القائد عيسى بن عمر ، كان له موقفا عدائيا للاستعمار ، كان يمنع على القبائل و أعيانها التعامل مع أوربا ، كما جند القبائل لمحاربة النصارى ، فنظرا لتقربه من المخزن عين وزيرا للبحر ، وذلك نظرا لمعرفته بشؤون المعاملات البحرية مع أوربا . كما عيين أبنائه قوادا على فخدات من قبائل عبدة .

فبعد توقيع معاهدة الحماية الفرنسية على المغرب 1912م وبحكم أن عيسى بن عمر ، كان عدوا لفرنسا ، نفى إلى مدينة سلا تحت الإقامة الجبرية ، فبقى بهذه المدينة يعيش ظروفا صعبة إلى أن توفى فقيرا 1924م ، فدفن بها إلى أن نقل أبناؤه رفاته ، ليدفن من جديد بمقبرة العائلة داخل داره بعبدة .