كيف فهمنا الحداثة ؟

قد يكون من أولى الأوليات أن نسأل، ما الحداثة ؟ ولماذا الحداثة ؟ قبل الخوض في الماهية التكوينة للمفهوم  الذي فقد معناه بنية مبيتة .

 

حديثنا في هذا السياق يحتم وقفة متأنية حول التضارب  الحاصل بين ذواتنا وبين المفهوم المذكور، الأمر الذي يعني أننا نقف عند شرخ وانفصام في الهوية، بل هو تغييب كلي لها… فإذا جاز لنا أن نسمي هذا الأخير بالكذب على أنفسنا من أنفسنا لأجل وأد أنفسنا، فإننا نفهم بكل يسر أننا غير مسيرين محركين من أناس نعلهم، ونبحث عن تبرئتهم مما نسب إليهم.

فإذا توجهنا وجهية موضوعية، تحلل وتناقش بعين العدل والحياد، سنجد أن الحداثة لا تعني "الاتباع"، وإنما تحمل دلالة الأخذ، ونفهم من هذا الأخير على سبيل التقابل أن إمكانية الرفض والرد قائمة وبانية للمفهوم بناء قاعديا لا محيد عنه…؛

"الأخذ والرد أو الرفض"، ـ إذن ـ متلازمة لا يمكن لذوي الألباب أن يفصلوا بعضها عن البعض بأي شكل معرفي كان؛ بناء على هذا، وفي مقارنة بين هذه الوقفة النظرية ــ القائمة على رأي شخصي ــ وبين ما هو كائن على أرض الواقع، ستحدث صدمة قوية لدى المرء  ـ أقصد المرء السوي طبعاـ ، صدمة ناتجة عن المتلازمة المتجدرة رغم حداثة نشوئها، والتي مفادها " في الغالب، اتباع، اتباع، اتباع وفي بعض الأحيان اتباع مؤتت ببعض الاتباع "، نعم، إنه اتباع من جميع زوايا النظر، اتباع متسم بالحدق في الاتباع، بكل اختصار؛ هنا يحضر قول المفكر أدونيس حين استحدث ما يسمى "صدمة الحداثة"، فقد حضرني هذا المسمى لا على سبيل الاستشهاد، بل من باب التناص لنقول منه ونغيره إلى "صدمة الاتباع "، لأنه وكما تم التفصيل في البداية فالحداثة أقصي منها شق " الرفض والرد " على أهميتة البانية للمفهوم، بحيث لا يمككننا الحصول على حداثة دون شقيها السالفي الذكر.

هذا يوصلنا لإلى أن الحداثة لم تختص بشعب دون آخر أو زمان دون سواه، كما أشار إلى ذلك أدونيس في كتابيه "الثابت والمتحول" و "الشعرية العربية"، وهو سياق يصح أن نستشهد فيه أيضا بقول قدامة بن جعفر في معرض حديثه عن الصراع الناتج عن الصراع بين القديم والحديث، وهو ما معناه أن الله لم يقصر العلم والمعرفة على زمان دون آخر، وما إلى ذلك من معنى… وأيضا ما صرح به باعتبار كل قديم كان جديدا في عصره، وكل جديد سيصبح قديما في عصر آخر، وهكذا تستمر الجدلية.

إن الغريب والموجع اليوم، ليس فهم الحداثة اتباعا فقط، بل فهمها من قبل من يحسبون أنفسهم مجددين محدثين، في مختلف المجالات، فتجد الواحد منهم لا يفرق حتى بين التحديث في مجاله وبين الترجمة، فالمسكين غارق في تجرمة ـ عفوا ترجمة ـ الأعمال، أي، لا شيء سوى أنه يأكل بنهم ما جادت به بصائر الآخرين كالأعمى الذي يتمتع برؤية الظلام لألفته ، مضيفا على ذلك كثيرا من التبجح، ؛ ألا يرى هؤلاء أن ما يترجمونه قد لا يتماشى ـ اجتماعيا، ونفسيا، وقيميا… ـ  وطبيعة البقعة والفئة التي ينتمي إليها، إنها بالفعل لا بالقوة تسمى الحداثة المتخلفة.

إن الحداثة "أخذ ورفض" ، لا من جهة واحدة ومحددة، أو زمان واحد ومحدد، بل الأحق أن نأخذ من سابقينا وصانعي تاريخنا ما نجده حداثيا يخدم رقينا وسيرنا نحو الأمام، ونرفض ما لا يسهم في هذا الرقي؛ وكذلك ينبغي أن نأخذ من الأمم والأجناس المعاصرة الأخرى ما نراه إيجابيا، ونرد عكس ذلك؛ وهذا يفتح قوسا ذا أهمية بالغة، بحيث ينبغي أن لا تكون الحداثة بشقيها "الأخذ والرفض" منافية لعناصر مهمة يأتي على قائمتها "منظومة القيم" الخاصة بكل مجتمع وأفراده.

نختم هذا المقال، بناء على الفكرة الأخيرة المنصبة حول "منظومة القيم" لنوجه السؤال إلى منحى السوسيولوجيا، و منحى البيداغوجيا، أملا في العثور على لاإيجابة المختفية منذ عقود مملة، كيف تناقش الحداثة في هذين العلمين ؟ وكيف يتم تقديمها للفرد استنادا إلأى العلم الثاني ؟