قصة المرأة التي وقفت خلف نجاح اليوسفي

قصة المرأة التي وقفت خلف نجاح اليوسفي

  غالبا ما يردد الناس مقولة “وراء كل رجل عظيم امرأة”، وهي المقولة التي تنسب للقائد الفرنسي نابليون بونبارت، وهي تشبه إلى حد كبير المثل الشعبي المغربي الذي يقول بأن “الرابح من المرأة..”، وهذه المرأة التي تظهر في الصورة على غلاف “الأسبوع”، اسمها هيلين، هي أرملة الزعيم الراحل عبد الرحمان اليوسفي، شوهدت وهي تذرف دموعا غالية على فراق زوجها الذي ووري الثرى يوم الجمعة الماضية بمقبرة الشهداء في الدار البيضاء.

وإذا كانت ظروف الجائحة لم تسمح بتنظيم جنازة شعبية للزعيم، فإن قصة هيلين والسي عبد الرحمان، تشبه تفاصيلها فيلما سينمائيا لم ير النور، فقد كان اللقاء سنة 1947، في مدينة الدار البيضاء، وهي ابنة رجل يوناني، كان جدها يتاجر في البواخر بين تركيا وروسيا، قبل أن يُطردوا من طرف الأتراك نحو مدينة ليون الفرنسية، حيث تعرف والدها اليوناني على أمها الفرنسية(..)، لكن لقاءها بالسي عبد الرحمان كان في الدار البيضاء، عندما أراد اليوسفي تمثيل دور النادل في حفلة انتهاء السنة الدراسية، فقاده القدر إلى التعرف على والدها الخياط، ثم الأسرة فيما بعد.. لكن قصة الزواج السعيد لم تكن بالسهولة المتوقعة، ولم تكن لتنجح لولا ذلك الوفاء الذي بدأنا نفتقده في الزمن الحاضر.

لقد دامت الخطبة بين هيلين والراحل عبد الرحمان مدة طويلة، قبل تتوج بزواج عظيم، بعيد عن المبالغة في الشكليات، حيث كانت هيلين تعتني باليوسفي، واليوسفي يعتني بهيلين في مواجهة شدائد عوائد الزمن، وهو ما حكاه الراحل بنفسه في مذكراته الصادرة تحت عنوان “أحاديث فيما جرى”، حيث كانت الزوجة ترافق زوجها في عدة مناسبات خصصت لتقديم هذا الكتاب.

حكى الراحل اليوسفي في مذكراته، قصة تعرفه على هيلين، التي ظلت تطل على السياسة من شرفة زوجها دون أن تخوضها، ما يلي:

((تعرفت على زوجتي هيلين ‬بالصدفة بمدينة الدار البيضاء سنة 1947‬، وكانت المناسبة انتهاء السنة الدراسية بنجاح، فقررنا أن نقدم في الحفل المنظم عرضا مسرحيا،‪ ‬كان نصيبي فيه دور النادل (Barman‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬)، وقرر المخرج أن أرتدي بدلة بيضاء للقيام بهذا الدور‪،‬ وبما أني لا أتوفر عليها‪،‬ كان علي التوجه عند الخياط لتحضيرها‪،‬ وقد أرشدني أحدهم إلى خياط كان قد حل حديثا بالمدينة قادما إليها من فرنسا‪،‬ وفتح محله بالشارع الذي يحمل حاليا اسم الأمير مولاي عبد الله،‬‬‬‬‬‬‬ ولم يكن هذا الخياط المقصود سوى والد هيلين، والذي تعرفت عليه هو الآخر واسمه السيد ‬باندليس كيسيسوكلو.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ بعد فترة‪،‬ جمعتنا صدفة ثانية‪،‬ حين دعاني الحاج أحمد بناني، تاجر الأثواب بالجملة بالدار البيضاء‪،‬ لتناول العشاء معه‪،‬ وفوجئت عندما وجدت هناك هيلين وعائلتها‪،‬ وكانت مناسبة‬ للتعرف عليهم‪،‬ حيث علمت أنها عائلة من أصل يوناني معروفة‪،‬ تحمل اسم “كيسيسوكلو”، كان جدها يتاجر بالبواخر بين تركيا وروسيا لعقود، وكانوا يقيمون بمدينة إنوبلوس على البحر الأسود‪.

هيلين وعبد الرحمان أيام زمان

وبعد الحرب العالمية الأولى،‪ ‬احتل الأتراك تلك المنطقة، ‬فخيروا جميع اليونانيين الأرثوذوكس بين التخلي عن ديانتهم للحفاظ على ثرواتهم أو الرحيل خارج المنطقة‪، فا‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ختارت عائلتها الرحيل‪،‬ ليتوجه أفرادها مباشرة إلى مدينة ليون الفرنسية‪، ‬كان‬ والد هيلين لا يزال أعزبا، ‬وتعرف على أمها كريستني كراملمبوس، ‬ليتم الزواج بمدينة ليون، حيث رأت زوجتي هيلين النور، ‬وأختها أنييت، وأخواها: ألان ‬وجون.

بعد الحرب العالمية الثانية‪، ‬شجع أحد الأصدقاء عائلة هيلين‪، ‬والذي كان يعمل طبيبا ‫للعيون بمدينة الدار البيضاء‪،‬ هو الدكتور دور،‬ على المجيء إلى المغرب،‪ ‬وهذا ما حصل سنة 1947‬، حيث فتح والدها محلا للخياطة بالشارع الذي يحمل اسم الأمير مولاي عبد الله حاليا‪،‬ بينما فتحت أمها دكانا لبيع ملابس الأطفال بالشارع الذي يحمل اسم الشهيد مصطفى المعاني حاليا‪.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

لقد دامت الخطبة زمنا طويلا‪، ‬ساهم في إطالتها الاعتقال الأول سنة‪ 1959، ‬ثم الاعتقال الثاني سنة‪ 1963، ‬ثم قضية المهدي بنبركة‪، ‬حيث سافرت لمتابعة إدارة القضية كطرف مدني‬ بباريس، ولم يصدر الحكم إلا سنة 1967.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وفي سنة 1965، ‬قررت عائلة هيلين مغادرة المغرب بصفة نهائية، واستقرت في مدينة كان‬ بالجنوب الفرنسي،‪ ‬وفي سنة‪ ،1968 ‬أي بعد إحدى وعشرين سنة من التعرف على هيلين وعائلتها، تم عقد زواجنا ببلدية الدائرة السادسة لمدينة باريس، وقد أشرفت على عقد هذا القران محامية الصديق أحمد بن بلة، الأستاذة “مدلني‪ -‬لفو‪ -‬فريون”.

لقد احتملت زوجتي هيلين‪،‬ وضحت بالكثير من أجل الوقوف إلى جانبي‪، ‬وساعدتني في رحلة الغربة الشاقة والمتعبة، وأنا مدين لها بالكثير، ‬لأنني كنت دائم التنقل من اجتماع إلى اجتماع، ‬ومن موعد إلى آخر، كما كنت أتلقى زيارات كثيرة‪ ‬في أي وقت‪،‬ ليلا ونهارا‪، ‬والشكر موصول لها أيضا على العلاقة الخاصة والمتينة ‬التي كانت تربط بينها وبين والدتي رغم غياب التواصل اللغوي،‪ ‬ولكن كيمياء التواصل كانت ترسي بينهما بشكل غريب،‬ وكان‬ تبادل المحبة والود بينهما متأصلا وعظيما، لدرجة أثارت انتباه الجميع.‬

كان والد هيلين‪،‬ منذ الستينيات من القرن الماضي‪،‬ يداعبني ويكرر على مسامعي ‫باستمرار: ‬متى يقوم ملككم الحسن الثاني بتعيينك وزيرا أول لكي يرتاح‪،‬ غير أنه مات ستة‬ أشهر قبل أن يلبي الملك الراحل رغبته))‪ (من مذكرات اليوسفي: أحاديث فيما جرى).